فصل: تفسير الآية رقم (42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (42):

{إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)}
{إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدنيا} بدل من {يوم} [الأنفال: 41] أو معمول لاذكروا مقدرًا، وجوز أبو البقاء أن يكون ظرفًا لقدير وليس بشيء، والعدوة بالحركات الثلاث ششط الوادي وأصله من العدو التجاوز والقراءة المشهورة الضم والكسر وهو قراءة ابن كثير. وأبي عمرو. ويعقوب.
وقرأ الحسن. وزيد بن علي وغيرهما بالفتح وكلها لغات عنى ولا عبرة بإنكار بعضها و{الدنيا} تأنيث الأدنى أي إذ أنتم نازلون بشفير الوادي الأقرب إلى المدينة {وَهُمْ} أي المشركون {بالعدوة القصوى} أي البعدى من المدينة وهو تأنيث الأقصى، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {القصيا} ومن قواعدهم أن فعلى من ذوات الواو إذا كان اسمًا تبدل لامه ياء كدنيا فإنه من دنا يدنو إذا قرب، ولم يبدل من قصوى على المشهور لأنه بحسب الأصل صفة ولم يبدل فيها للفرق بين الصفة والاسم، وإذا اعتبر غلبته وأنه جرى مجرى الأسماء الجامدة قيل قصيا وهي لغة تميم والأولى لغة أهل الحجاز، ومن أهل التصريف من قال: إن اللغة الغالبة العكس فإن كانت صفة أبدلت اللام نحو العليا وإن كانت اسمًا أقرت نحو حزوى؛ قيل: فعلى هذا القصوى شاذة والقياس قصيا، وعنوا بالشذوذ مخالفة القياس لا الاستعمال فلا تنافي الفصاحة، وذكروا في تعليل عدم ازبدال بالفرق أنه إنما لم يعكس الأمر وإن حصل به الفرق أيضًا لأن الصفة أثقل فأبقيت على الأصل الأخف لثقل الانتقال من الضمة إلى الياء، ومن عكس أعطى الأصل للأصل وهو الاسم وغير في الفرع للفرق {القصوى والركب} أي العير أو أصحابها أبو سفيان وأصحابه وهو اسم جمع راكب لا جمع على الصحيح {أَسْفَلَ مِنكُمْ} أي في مكان أسفل من مكانكم يعني ساحل البحر، وهو نصب على الظرفية وفي «الأصل» صفة للظرف كما أرنا إليه ولهذا انتصب انتصابه وقام مقامه ولم ينسلخ عن الوصفية خلافًا لبعضهم وهو واقع موقع الخبر، وأجاز الفراء. والأخفش رفعه على الاتساع أو بتقدير موضع الركب أسفل، والجملة عطف على مدخول إذ، أي إذ أنتم إلخ وإذ الركب إلخ.
واختار الجمهور أنها في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور قبل، ووجه الإطناب في الآية مع حصول المقصود بأن يقال: يوم الفرقان يوم النصر والظفر على الأعداء مثلًا تصوير ما بدر سبحانه من أمر وقعة بدر والامتنان والدلالة على أنه من الآيات الغر المحجلة وغير ذلك وهذا مراد الزمخشري بقوله فائدة هذا التوقيت، وذكر مراكز الفريقين وأن العير كان أسفل منهم الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدو وشوكته. وتكامل عدته وتمهد أسباب العدة له وضعف شأن المسلمين والتباث أمرهم وإن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعًا من الله تعالى ودليلًا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله سبحانه وقوته وباهر قدرته، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضًا لا بأس بها ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار تسوخ فيها الأرجل وكانت العير وراء ظهر العدو مع كثرة عددهم فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم وتوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطنهم ولا يخلو مراكزهم ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدتهم وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر تلك الوقعة، وليس السؤال عن فائدة الإخبار بما هو معلوم للمخاطب ليكون الجواب بأن فائدته لازمة كما ظنه غير واحد لما لا يخفى، وعلى هذا الطرز ذكر قوله تعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد} أي لو تواعدتم أنتم وهم القتال وعلمتم حالهم وحالكم لاختلفتم أنتم في الميعاد هيبة منهم ويأسًا من الظفر عليهم، وجعل الضمير الأول شاملًا للجمعين تغليبًا والثاني للمسلمين خاصة هو المناسب للمقام إذ القصد فيه إلى بيان ضعف المسلمين ونصرة الله تعالى لهم مع ذلك، والزمخشري جعله فيهما شاملًا للفريقين لتكون الضمائر على وتيرة واحدة من غير تفكيك على معنى لو تواعدتم أنتم وأهل مكة لخالف بعضكم بعضًا فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله تعالى من التلاقي وسبب له ولا يخفى عدم مناسبته، وأمر التفكيك سهل {ولكن} تلاقيتم على غير موعد {لّيَقْضِيَ الله أَمْرًا} وهو نصر المؤمنين وقهر أعدائهم {كَانَ مَفْعُولًا} أي كان واجبًا أن يفعل بسبب الوعد المشار إليه بقوله سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} [الروم: 47] أو كان مقدرًا في الأزل.
وقيل: كان عنى صار الدالة على التحول أي صار مفعولًا بعد أن لم يكن، وقوله سبحانه: {لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ ويحيى مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ} بدل من {لّيَقْضِيَ} بإعادة الحرف أو متعلق فعولًا.
وجوز أبو البقاء أيضًا تعلقه بيقضي، واستطيب الطيبي الأول، والمراد بالبينة الحجة الظاهرة، أي ليموت من يموت عن حجة عاينها ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها فلا يبقى محل للتعلل بالأعذار، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة والحجج الغر المحجلة، ويجوز أن يراد بالحياة الإيمان وبالموت الكفر استعارة أو مجازًا مرسلًا، وبالبينة إظهار كمال القدرة الدالة على الحجة الدافعة أي ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة، وإلى هذا ذهب قتادة. ومحمد بن إسحاق، قيل: والمراد بمن هلك ومن حي المشارف للهلاك والحياة أو من هذا حاله في علم الله تعالى وقضائه، والمشارفة في الهلاك ظاهرة، وأما مشارفة الحياة فقيل: المراد بها الاستمرار على الحياة بعد الوقعة، وإنما قيل ذلك: لأن من حي مقابل لمن هلك، والظاهر أن {عَنْ} عنى بعد كقوله تعالى: {عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نادمين} [المؤمنون: 40]، وقييل: لما لم يتصور أن يهلك في الاستقبال من هلك في الماضي حمل من هلك على المشارفة ليرجع إلى الاستقبال، وكذا لما لم يتصور أن يتصف بالحياة المستقبلة من اتصف بها في الماضي حمل على ذلك لذلك أيثضًا، لكن يلزم منه أن يختص بمن لم يكن حيًا إذ ذاك فيحمل على دوام الحياة دون الاتصاف بأصلها، فيكون المعنى لتدوم حياة من أشرف لدوامها، ولا يجوز أن يكون المعنى لتدوم حياة من حي في الماضي لأن ذلك صادق على من هلك فلا تحصل المقابلة إلا أن يخصص باعتبارها، وتكلف بعضهم لتوجيه المضي والاستقبال بغير ما ذكر مما لا يخلو عن تأمل، واعتبار المضي بالنظر إلى علم الله تعالى وقضائه والاستقبال بالنظر إلى الوجود الخارجي مما لا غبار عليه، و{عَنْ} لا يتعين كونها عنى بعد بل يمكن أن تبقى على معنى المجاوزة الذي لم يذكر البصريون سواه.
ونظير ذلك قوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} [هود: 53] بناءً على أن المراد ما نتركها صادرين عن قولك كما هو رأي البعض، ويمكن أن تكون عنى على كما في قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} [محمد: 38] وقول ذي الأصبع:
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ** عني ولا أنت دياني فتخزوني

وقرأ الأعمش {لِيُهْلِكَ} بفتح العين، وروي ذلك عن عاصم وهي على ما قال ابن جني في «المحتسب» شاذة مرغوب عنها لأن الماضي هلك بالفتح ولا يأتي فعل يفعل إلا إذا كان حرف الحلق في العين أو اللام فهو من اللغة المتداخلة.
وفي القاموس أن هلك كضرب ومنع وعلم وهو ظاهر في جواز الكسر والفتح في الماضي والمضارع.
نعم المشهور في الماضي الفتح وفي المضارع الكسر، وقرأ ابن كثير. ونافع. وأبو بكر. ويعقوب {حَىّ} بفك الإدغام قال أبو البقاء: وفيه وجهان أحدهما: الحمل على المستقبل وهو يحيى فكما لم يدغم فيه لم يدغم في الماضي. والثاني: أن حركة الحرفين مختلفة فالأول مكسور والثاني مفتوح واختلاف الحركتين كاختلاف الحرفين، ولذلك أجازوا في الاختيار ضبب البلد إذا كثر ضبه، ويقوي ذلك أن الحركة الثانية عارضة فكأن الياء الثانية ساكنة ولو سكنت لم يلزم الإدغام فكذلك إذا كانت في تقدير الساكن، والياآن أصل وليست الثانية بدلًا من واو، وأما الحيوان فالواو فيه بدل من الياء، وأما الحواء فليس من لفظ الحية بل من حوى يحوي إذا جمع {وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي بكفر من كفر وعقابه وإيمان من آمن وثوابه، ولعل الجمع بين الوصفين لاشتمال الكفر والإيمان على الاعتقاد والقول، أما اشتمال الإيمان على القول فظاهر لاشتراط إجراء الأحكام بكلمتي الشهادة، وأما اشتمال الكفر عليه فبناءً على المعتاد فيه أيضًا.

.تفسير الآية رقم (43):

{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)}
{إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا} مقدر باذكر أو بدل من {يوم الفرقان} [الأنفال: 41] وجوز أن يتعلق بـ {عليم} [الأنفال: 42] وليس بشيء، ونصب قليلًا على أنه مفعول ثالث عند الأجهوري أو حال على ما يفهمه كلام غيره.
والجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم أرى ما أرى في النوم وهو الظاهر المتبادر، وحكمة إراءتهم إياه صلى الله عليه وسلم وسلم قليلين أن يخبر أصحابه رضي الله تعالى عنهم فيكون ذلك تثبيتًا لهم، وعن الحسن أنه فسر المنام بالعين لأنها مكان النوم كما يقال للقطيفة المنامة لأنها ينام فيها فلم تكن عنده هناك رؤيا أصلًا بل كانت رؤية، وإليه ذهب البلخي ولا يخفى ما فيه لأن المنام شائع عنى النوم مصدر ميمي على ما قال بعض المحققين أوفى موضع الشخص النائم على ما في الكشف ففي الحمل على خلاف ذلك تعقيد ولا نكتة فيه، وما قيل: إن فائدة العدول الدلالة على الأمن الوافر فليس بشيء لأنه لا يفيد ذلك فالنوم في تلك الحال دليل إلا من لا أن يريهم في عينه التي هي محل النوم، على أن الروايات الجمة برؤيته صلى الله عليه وسلم إياهم منامًا وقص ذلك على أصحابه مشهورة لا يعارضها كون العين مكان النوم نظرًا إلى الظاهر، ولعل الرواية عن الحسن غير صحيحة فإنه الفصيح العالم بكلام العرب، وتخريج كلامه على أن في الكلام مضافًا محذوفًا أقيم المضاف إليه مقامه أي في موضع منامك مما لا يرتضيه اليقظان أيضًا، والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة الغريبة، والمراد إذا أراكهم الله قليلًا {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ} أي لجبنتم وهبتم الإقدام، وجمع ضمير الخطاب في الجزاء مع إفراده في الشرط إشارة كما قيل: إلى أن الجبن يعرض لهم لا له صلى الله عليه وسلم إن كان الخطاب للأصحاب فقط وإن كان للكل يكون من إسناد ما للأكثر للكل {ولتنازعتم فِي الامر} أي أمر القتال وتفرقت آراؤكم في الثبات والفرار {ولكن الله سَلَّمَ} أي أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع.
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي الخواطر التي جعلت كأنها مالكة للصدور، والمراد أنه يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع ولذلك دبر ما دبر.

.تفسير الآية رقم (44):

{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)}
{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا} مقدر ضمر خوطب به الكل بطريق التلوين والتعميم معطوف على ما قبل، والضميران مفعولا يرى وقليلًا حال من الثاني، وإنما قللهم سبحانه في أعين المسلمين حتى قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إلى من بجنبه: أتراهم سبعين؟ فقال: أراهم مائة تثبيتًا لهم وتصديقًا لرسول عليه الصلاة والسلام {وَيُقَلّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} حتى قال أبو جهل: إنما أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أكلة جزور، وكان هذا التقليل في ابتداء الأمر قبل التحام القتال ليجترؤا عليهم ويتركوا الاستعداد والاستمداد ثم كثرهم سبحانه حتى رأوهم مثليهم لتفاجئهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا.
{لِيَقْضِىَ الله أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور} كرر لاختلاف الفعل المعلل به إذ هو في الأول اجتماعهم بلا ميعاد وهنا تقليلهم ثم تكثيرهم، أو لأن المراد بالأمر ثم الالتقاء على الوجه المحكي، وههنا إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وحزبه، هذا وذكر غير واحد أن ما وقع في هذه الواقعة من عظائم الآيات فإن البصر وإن كان قد يرى الكثير قليلًا والقليل كثيرًا لكن لا على ذلك الوجه ولا إلى ذلك الحد وإنما يتصور ذلك بصد الأبصار عن إبصار بعض دون بعض مع التساوي في الشرائط. واعترض بأن ما ذكر من التعليل مناسب لتقليل الكثير لا لتكثير القليل، وأجيب بأن تكثير القليل من جانب المؤمنين بكون الملائكة عليهم السلام ومن جانب الكفرة حقيقة فلا يحتاج إلى توجيه فيهما وإنما المحتاج إليه تقليل الكثير، وذكر في الكشاف طريقين لإبصار الكثير قليلًا أن يستر الله تعالى بعضه بساتر أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير كما خلق في عيون الحول ما يستكثرون به القليل فيرون الواحد اثنين، وعليه فيمكن أن يقال: إن رؤيتهم للمؤمنين مثليهم من قبيل رؤية الأحول بل هي أعظم على تقدير أن يراد مثلي أنفسهم وحينئذٍ لا يحتاج إلى حديث رؤية الملائكة مع المؤمنين، وفي الانتصاف أن في ذلك دليلًا بينًا على أنه تعالى هو الذي يخلق الإدراك في الحاسة غير موقوف على سبب من مقابلة أو قرب أو ارتفاع حجب أو غير ذلك، إذ لو كانت هذه الأسباب موجبة للرؤية عقلًا لما أمكن أن يستتر عنهم البعض وقد أدركوا البعض، والسبب الموجب مشترك فعلى هذا يجوز أن يخلق الله تعالى الإدراك مع انتفاء هذه الأسباب ويجوز أن لا يخلقه مع اجتماعها فلا ربط إذن بين الرؤية وبينها في مقدور الله تعالى، وهي رادة على القدرية المنكرين لرؤيته تعالى لفقد شرطها وهو التجسم ونحوه، وحسبهم هذه الآية في بطلان زعمهم لكنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون، ثم إن رؤياه عليه الصلاة والسلام كانت في قول على طرز رؤية أصحابه رضي الله تعالى عنهم المشركين، وذكر بعض المحققين أنها كانت في مقام التعبير فلا يلزم أن تكون على خلاف الواقع، والقلة معبرة بالمغلوبية، والواقعة من الرؤية منها ما يقع بعينه ومنها ما يعبر ويؤول، وتحقيق الكلام فيها يقتضي بسطًا فتيقظ واستمع لما يتلى فنقول:
اعلم أن النفس الناطقة الإنسانية سلطان القوى البدنية وهي الآت لها وظاهر أن القوة الجسمانية تكل بكثرة العمل كالسيف الذي يكل بكثرة القطع فالنفس إذا استعملت القوى الظاهرة استعمالًا كثيرًا بحيث يعرض لها الكلال تعطلها لتستريح وتقوى كما أن الفارس إذا أكثر ركوب فرسه يرسله ليستريح ويرعى.
وهذا التعطل الحاصل باسترخاء الأعصاب الدماغية المتصلة بالآت الإدراك هو النوم وما يتراءى هناك هو الرؤيا إلا أن المتكلمين والحكماء المشائين والمتألهين من الإشراقيين والصوفية اختلفوا في حقيقتها إلى مذاهب، فذهب المعتزلة وجمهور أهل السنة من المتكلمين إلى أن الرؤيا خيالات باطلة، ووجه ذلك عند المعتزلة فقد شرائط الإدراك حالة النوم من المقابلة وانبثاث الشعاع وتوسط الشغاف والبنية المخصوصة إلى غير ذلك من الشرائط المعتبرة في الإدراك عندهم وعند الجماعة، وهم لم يشترطوا شيئًا من ذلك أن الإدراك حالة النوم خلاف العادة وأن النوم ضد الإدراك فلا يجامعه فلا تكون الرؤيا إدراكًا حقيقة، وقال الأستاذ أبو إسحاق: إن الرؤيا إدراك حق إذ لا فرق بين ما يجده النائم من نفسه من إبصار وسمع وذوق وغيرها من الإدراكات وما يجده اليقظان من إدراكاته فلو جاز التشكيك فيما يجده النائم لجاز التشكيك فيما يجده اليقظان ولزم السفسطة والقدح في الأمور المعلومة حقيقتها بالبديهة، ولم يخالف في كون النوم ضدًا للإدراك لكنه زعم أن الإدراكات تقوم بجزء من أجزاء الإنسان غير ما يقوم به النوم من أجزائه فلا يلزم اجتماع الضدين في محل.
وذهب المشاءون إلى أن المدرك في النوم يوجد في الحس المشترك الذي هو لوح المحسوسات ومجمعها فإن الحواس الظاهرة إذا أخذت صور المحسوسات الخارجية وأدتها إلى الحس المشترك صارت تلك الصور مشاهدة هناك ثم إن القوة المتخيلة التي من شأنها تركيب الصور إذا ركبت صورة فرا انطبعت تلك الصورة في الحس المشترك وصارت مشاهدة على حسب مشاهدة الصورة الخارجية فإن مدار المشاهدة الانطباع في الحس المشترك سواء انحدرت إليه من الخارج أو من الداخل، ثم إن القوة المتخيلة من شأنها التصوير دائمًا لا تسكن نومًا ولا يقظة فلو خليت وطباعها لما فترت عن رسم الصور في الحس المشترك إلا أنه يصرفها عن ذلك أمران. أحدهما توارد الصور من الخارج على الحس المشترك إذ بعد انتقاشه بهذه الصورة لا يسع أن ينتقش بالصورة التي تركبها المتخيلة.
وثانيهما تسلط العقل أو الوهم عليها بالضبط عندما يستعملانها في مدركاتهما، ولا شك في انقطاع هذين الصارفين عند النوم فيتسع لانتقاش الصور من الداخل فيكون ما يدركه النائم صورًا مرتسمة في الحس المشترك وموجودة فيه وهو الرؤيا إلا أن منها ما هو صادق ومنها ما هو كاذب. أما الأولى فهي التي ترد تلك الصور فيها على الحس المشترك من النفس الناطقة، وبيانه أنه صور جميع الحوادث ما كان وما يكون مرتسمة في المبادئ العالية التي يعبر عنها أرباب الشرع بالملائكة ومنطبعة بالنفوس المجردة الفلكية واتصال النفس المجردة بالمجرد لعلة الجنسية أشد من اتصالها بالقوى الجسمانية فمن شأنها أن تتصل بذلك وتنتق بما فيه إلا أن اشتغالها بالحواس الظاهرة والباطنة واستغراقها بتدبير بدنها يمنعانها عن ذلك الاتصال والانتقاش لأن اشتغال النفس ببعض أفاعيلها يمنعها من الاشتغال بغيره، فءن الذي لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى الواحد القهار، ولا يمكن إزالة العائق بالكلية إلا أنه يسكن اشتغالها بالإدراكات الحسية حالة النوم إذ في اليقظة ينتشر الروح إلى ظاهر البدن بواسطة الشرايين وينصب إلى الحواس الظاهرة حالة الانتشار ويحصل بها الإدراك فتشتغل النفس بتلك الإدراكات، وأما في النوم الذي هو أخ الموت فينحبس الروح إلى الباطن ويرجع عن الحواس الظاهرة بعد انصبابه إليها فتتعطل فيحصل للنفس أدنى فراغ فتتصل بتلك المبادئ اتصالًا روحانيًا معنويًا وتنتقش ببعض ما فيها مما استعدت هي له كالمرايا إذا حوذي بعضها ببعض فانتقش في بعضها ما يتسع له مما انتقش في البعض الآخر فتدرك النفس مما ارتسم في تلك المبادئ ما يناسبها من أحوالها وأحوال ما يقارنها من الأقارب والأهل والولد والإقليم والبلد ماضيه وآتيه إلا أن هذا الإدراك لعدم تأديه من طرف الحس كلي فتحاكيه القوة المتخيلة التي جبلت محاكية لما يرد عليها بصور جزئية مثالية خيالية مناسبة إياه فتحاكي ما هو خير بالنسبة إليها في صورة جميلة وما هو شر كذلك في صورة قبيحة هائلة على مراتب مختلفة ووجوه متعددة ومن ثمة قد ترى ذاتها بصفة جميلة صورية ومعنوية من الجمال والعلم والكرم والشجاعة وغير ذلك من الصفات المحمودة، وقد ترى ذاتها متصفة بأضداد ما ذكر، وقد ترى تلك الصفات في صورة ما غلبت الصفات عليه، بل قد ترى أنها نفسها صارت نوعًا آخر لغلبة صفاته عليها، ومتى غلبت عليها الصفات الجميلة والأخلاق الحميدة ترى صورًا جميلة وأضخاصًا حميدة كذوي الجمال والعلماء والأولياء والملائكة، بل قد ترى أنها صارت عالمًا أو ملكًا مثلاف، ومتى غلبت عليها الصفات الذميمة ترى صورًا هائلة كصورة غولية أو سبعية، وكذا رؤية حال من يقاربه من الأهل والولد والإقليم مثلًا فإنها تراها باعتبار اختلاف المراتب والمناسبات على ما هي عليه في المضي أو الحال أو الاستقبال حتى لو اهتمت صالح الناس رأتها ولو كانت منجذبة الهمة إلى المعقولات لاحت لها أشياء منها، فمتى لم يكن اختلاف بين تلك الصورة وبين ما هي مأخوذة منه إلا بالكلية والجزئية كانت الرؤية غير محتاجة إلى التعبير، والتجاوز عنها إلى ما يناسبها بوجه من المماثلة أو الضدية التي يقتضيها نحو الألف والخلق والأسباب السماوية وغير ذلك من وجوه خفية لا يطلع عليها إلا الأفراد من أئمة التعبير، وإن كانت مخالفة لها لقصور يقع في المتخيلة إما لذاتها أو لعروض دهشة وحيرة لها مما ترى أو لغير ذلك كانت محتاجة إلى التعبير، وهو أن يرجع المعبر القهقرى مجردًا لما يراه النائم عن تلك الصور التي صورتها المتخيلة إلى أن ينتهي رتبة أو مراتب إلى ما تلقته النفس من تلك المبادئ فيكون هو الواقع، وقد يتفق سيما إذا كان الرائي كثير الاهتمام بالرؤيا أن يعبر رؤياه في النوم الذي رآها فيه أو غيره، فهو إما بتذكره لما كانت الرؤيا حكاية عنه، وإما بتصوير المتخيلة حكاية رؤياه بحكاية أخرى، وحينئذٍ يحتاج إلى تعبيرين.
وأما الثانية: فهي تكون لأشياء أما لأن النفس إذا أحست في حال اليقظة بتوسط الآلات الجسمانية بصور جزئية محسوسة أو خيالية وبقيت مخزونة في قوة الخيال فعند النوم الذي يخلص فيه الحس المشترك عما يرد عليه من الحواس الظاهرة ترسم في الحس المشترك ارتسام المحسوسات إما على ما كانت عليها وإما بصور مناسبة لها، أو لأن النفس أتقنت بواسطة المتخيلة صورة ألفتها فعند النوم تتمثل في الحس المشترك، أو لأن مزاج الدماغ يتغير فيتغير مزاج الروح الحاملة للقوة المتخيلة فتتغير أفعال المتخيلة بحسب تلك التغيرات، ولذلك يرى الدموي الأشياء الحمر والصفراوي النيران والأشعة والسوداوي الجبال والأدخنة والبلغمي المياه والألوان البيض، ومن هذا القبيل رؤية كون بدنه أو بعض أعضائه في الثلج أو الماء أو النار عند غلبة السخونة أو البرودة عليه، ورؤية أنه يأكل أو يشرب أو يبول عند عروض الاحتياج إلى أحدها.
ومن العجائب في هذا الباب أنه إذا غلب المني واحتاجت الطبيعة إلى دفعه تحتال باستعانة القوة المتخيلة إلى تصوير ما يندفع به من الصور السحنة وفي إرسال الريح الناشرة لآلة الجماع وإرادة حركاتها حتى يندفع بذلك ما أرادت اندفاعه، وقد يكون ذلك التوجه والاعتياد لا لغلبة المني فلهذا قد لا يندفع به شيء، وقد يعرض للروح اضطراب وتحريك من الأسباب الخارجة والداخلة فترى أمورًا متغيرة متفرقة غير منضبطة فرا يتركب من المجموع صورة غير معهودة قلما يتصورها أحد أو يقع مثلها في الخارج، وقد يكون ذلك لاتصالات فلكية وأوضاع سماوية، فإذا كانت الرؤيا لأحد هذه الأمور تسمى أضغاث أحلام ولا تعبير لها ولا تقع.
وقد ذكروا أن أصدق الناس رؤيا أعدلهم مزاجاف ومن كان مع ذلك منقطعًا عن العلائق الشاغلة والخيالات الفاسدة معتادًا للصدق متوجهًا إلى الرؤيا واستثباتها وكيفيتها كانت رؤياه أصح وأصدق وأكثر أحلام الكذاب والسكران والمغموم ومن غلب عليه سوء مزاج أو فكر أو خيالات فاسدة ومقتضيات قوى غضبية وشهوية كاذبة لا يعتمد عليها، ومن هنا قالوا: لا اعتماد على رؤيا الشاعر لتعوده الأكاذيب الباطلة والتخيلات الفاسدة.
وذهب بعض أصحاب المكاشفات وأرباب المشاهدات من الحكماء المتألهين والصوفية المنكرين لارتسام الصور في الخيال إلى أن الرؤيا مشاهدة النفس صورًا خيالية موجودة في عالم المثال الذي هو برزخ بين عالم المجردات اللطيفة المسمى عندهم بعالم الملكوت، وبين عالم الموجودات العينية الكثيفة المسمى بعالم الملك، وقالوا: فيه موجودات متشخصة مطابقة لما في الخارج من الجزئيات مثل لها قائمة بنفسها مناسبة لما في العالمين المذكورين، إما لعالم الملك فلأنها صور جسمانية شبحية، وإما لعالم الملكوت فلأنها معلقة غير متعلقة كان وجهة كالمجردات حتى أنه يرى صورًا مثالية لشخص واحد في مرايا متعددة بل في مواضع متكثرة كما يرى بعض الأولياء في زمان واحد في أماكن متعددة شرقية وغربية، ثم إن لتلك الصور مجالي مختلفة كالمرايا والماء الصافي، والقوى الجسمانية سيما الباطنة إذا انقطعت عن الاشتغال بالأمور الخارجية العائقة إذ بذلك يحصل لها زيادة مناسبة لذلك العالم كما للمتجردين عن العلائق البشرية، وإذا قويت تلك المناسبة كما للأنبياء عليهم السلام والأولياء الكمل قدس الله تعالى أسرارهم تظهر في القوى الظاهرة أيضًا، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاهد جبريل عليه السلام حين ما ينزل بالوحي والصحابة رضي الله تعالى عنهم حوله كانوا لا يشاهدونه. هذا واستشكل قول المتكلمين: أن الرؤيا خيالات باطلة بأنه قد شهد الكتاب والسنة بصحتها بل لم يكن أحد من الناس إلا وقد جربها من نفسه تجربة توجب التصديق بها. وأجيب بأن مرادهم أن كون ما يتخيله النائم إدراكًا بالبصر رؤية وكون ما يتخيله إدراكًا بالسمع سمعًا باطل فلا ينافي كونها أمارة لبعض الأشياء. وذكر حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة في شرح قوله عليه الصلاة والسلام: «من رآني في المنام فقد رآني» الحديث أنه ليس المراد بقوله عليه الصلاة والسلام فقد رآني رؤية الجسم بل رؤية المثال الذي صار آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه إليه، ثم ذكر أن النفس غير المثال المتخيل، فالشكل المرئي ليس روحه صلى الله عليه وسلم ولا شخصه بل مثاله على التحقيق، وكذا رؤيته سبحانه نومًا فإن ذاته تعالى منزهة عن الشكل والصورة لكن تنتهي تعريفاته تعالى إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره وهو آلة حقًا في كونه واسطة في التعريف، فقول الرائي: رأيت الله تعالى نومًا لا يعني به أنه رأى ذاته تعالى.
وقال أيضًا: من رآه صلى الله عليه وسلم منامًا لم يرد رؤيته حقيقة بشخصه المودع روضة المدينة بل رؤية مثاله وهو مثال روحه المقدسة عليه الصلاة والسلام.
قيل: ومن هنا يعلم جواب آخر للأشكال وهو أن مرادهم أن ما يرى في المنام ليس له حقيقة ثابتة في نفس الأمر كما أن المرئي في اليقظة كذلك بل هو مثال متخيل يظهره الله تعالى للنفس في المنام كما يظهر لها الأمور الغيبية بعد الموت والنوم والموت أخوان، ووصف ما ذكر بالباطل لعله من قبيل وصف العالم به في قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وأنت تعلم أن ما ذكره حجة الإسلام ليس مما اتفق عليه علماؤه فقد ذهب جمع إلى أن رؤيته صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة وبغيرها إدراك للمثال، على أن كلام المتكلمين ظاهر المخالفة للكتاب والسنة ولا يكاد يسلم تأويله عن شيء فتأمل. ولعل النوبة تقضي إلى ذكر زيادة كلام في هذا المقام.
وبالجملة إنكار الرؤيا على الإطلاق ليس في محله كيف وقد جاء في مدحها ما جاء. ففي صحيح مسلم أيها الناس لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها مسلم أو ترى له. وجاء في أكثر الروايات أنها جزء من ست وأربعين. ووجه ذلك بأنه عليه الصلاة والسلام عمل بها ستة أشهر في مبدأ الوحي وقد استقام ينزل عليه الوحي ثلاثًا وعشرين سنة، ولا يتأتى هذا على رواية خمس وأربعين، وكذا على رواية سبعين جزأً؛ أو رواية ست وسبعين وهي ضعيفة ورواية ست وعشرين وقد ذكرها ابن عبد البر ورواية النووي من أربعة وعشرين والله تعالى أعلم.